السبت، 24 أكتوبر 2009

₪ رحلة إلى 1412هـ ₪ 2 ₪




بعد أن لمع ضوء ذلك المصباح لم تكن لدي أي خطة بديلة فقد كانت الخطة الرئيسية والوحيدة هي التوجه مباشرة وبشكل مستقيم إلى ذلك الضوء، وفي طريقي إلى ذلك الضوء تبادر إلى ذهني خبر قديم سمعته في المرحلة الإبتدائية مفاده أنّ أحدهم قد غرق في "بحيرة البجع" وأن الناس لم يتعرفوا على صاحب الجثة، حينها تخوفت من أن أكون صاحب تلك الجثة ومن الطبيعي أنه لم يتعرف علي أحد في ذلك الوقت، توقفت مباشرة ولم يكن من بد سوى الاتجاه بشكل (انصلاقي!) إلى الشارع العام والذي لم يكن الوصول إليه أصعب مهماتي في ذلك اليوم الطويل، ثم دخلت رفحاء من جهة المشرق كأنني مسافر يدخلها للمرة الأولى.

تلك الشوارع البالية والتي لم تختلف كثيراً عن حال شوراعنا اليوم إلا أنه في تلك المرحلة عاشت تلك الطرق مرحلة استقرار طويلة.

أولى المواقف رجل عند مواقف الباصات المتجهة شمالاً إلى مدينة عرعر يؤشر بيده يطلب مني التوقف عنده وحصل له ما أراد، أخذ يتفحص سيارتي بشكل مندهش للغاية ثم قال: "ماشاء الله... الغالي كانك رايح لعرعر خذن معك"، مع كل القصص الدموية التي رسخت في ذهني عن طريق عرعر ومااصطلح عليه يومها بـ (طَلْعة الموت) والأرواح التي زهقت على ذلك الطريق ولأسباب أخرى أكثر وحشية لم أنبس ببنت شفة بل رمقته بنظرة نقدية صرفة وقلت في داخلي " REALY , ARE YOU KIDDING "؟

تحركت بعدها لأسمع المآذن تطلق أذان الفجر.. ومن بين تلك الأصوات صوت أذان عمّي أمدّه الله بالصحة والعافية ينطلق من جامع ابن مساعد الكامن في حي النموذجية والذي لا تفصله عن بيتنا القديم سوى عشرين خطوة.

مباشرة إلى داخل أدغال حي النموذجية توقفت أمام محطة العقيل ونزلت من السيارة وأزلت علامة تويوتا والصليب منها حتى أقهر الجميع ولعلمي أنني سأكون حديث الشارع الشبابي في ذلك اليوم، وصلت إلى المسجد وتوقفت أمام بابه الغربيّ ونزلت من سيارتي ولاأخفيكم سراً أنني عبثت بريموت السيارة قليلاً لأرعب بعض القريبين من باب المسجد.

عند دخولي الجامع قابلت أول المعارف.. أحد أبناء عمومتي متدثراً بكل مايمكن أن يدفأ جسمه تعلو عيناه رغبة في العودة إلى النوم وأخرى في عدم استقبال أي اتصال من أي كائن كان، سلمت عليه فرد علي بصوت منخفض لأصدمه بعدها بكلمة كانت كفيلةً لتقشع رغبة العودة إلى النوم وعدم الحديث مع أي كائن كان، ببساطة قلت له: "وشلون أبو فيصل؟" رد علي بقوله: "هلا !!!".

قد تدهشون من سبب استغرابه ولكني ناديته باسم أكبر أبنائه وقد بقي على زواجه أحد عشرة سنة، قلت له : "فيصل و خالد.. يجيك يوم وتعرف كل الهرجة".

توجهت بعدها إلى الصف الأول لأشاهد عمّي"أبا عقيل"، كان عمي في منظر الرجل شديد البأس والذي لم تأخذ منه عوامل الزمن مأخذها، لازال عمّي رجلاً عصامياً صاحب مبدأ، إن لم يعجبه أمرٌ فلن يعجبه ماعاش وإن استحسنه فستظل نظرته له حسنة إلى يوم يبعثون. قبل أن أؤدي سنة الفجر دخل أحد كبار السن الصف ليقف بجانبي ثم سلّم على الحضور وتم التعرّف على بصمة صوته بوضوع، فقد كان عمي الآخر "أبو عيّاد"؛ في أواخر الأربعينات في ذلك الوقت، لكن النكتة وخفة الظل بقيا معه إلى يومنا هذا -أطال الله عمره على طاعته وأمده بالصحة والعافية-، تظنّه قد أخذ الشق الآخر الليّن من شخصية "أبي عقيل" الجادّة، صافحني وكدت أن أنسى وأقبل رأسه كما هو الواجب لكنّي اكتفيت بالمصافحة حتى لا يفضح أمري.

أخذ المسجد يمتلئ بالحضور وأنا أتلفت هنا وهناك بشكل مريب ولو أنها لم تكن صلاة الفجر لنهرني أحد الشيبان لكن النعاس كان يغلب على أكثرهم، هناك اثنان من أبناء العمومة يتحدثان عن سيارة غريبة جداً في تصميمها تقف عند باب المسجد، آخر ممن أصبحوا فيما بعد من زملاء العمل يتناول المصحف، شيخ انتقل إلى رحمة الله بعدها بسنوات يؤدي سنة الفجر.. .

اصطف الجميع على إقامة المؤذن، ثم انقضت الصلاة ولم أشاهد أحد من أقراني، وكان علي الإنتظار حتى السابعة كي أشاهدهم جلست قليلاً في المسجد ثم خرجت لأتوجه بعدها إلى بيتنا الجديد الذي انتقلت إليه أواخر عام 1411 هـ، وكانت تلك اللحظة من المرّات القلائل التي لا أستطيع دخول بيتي فيها، فأخذت أتجول في حواري رفحاء القديمة، الانتظار قاتل في الأيام العادية فكيف بهكذا يوم؟! فأردت أن أقطع الإنتظار بعمل جنوني ولا يخلو من المغامرة.

اتجهت إلى مصلى العيد القديم والذي يقبع في قلب السوق وشخبطت على جدرانه مايلي (أيها الجمهور الكريم.. البحيرة ستزال، الأراضي سيرخص سعرها، الجامعة ستنشأ، المستشفى على وشك الإفتتاح، الممشى الذكي سيتوفر، التضامن سيصعد إلى الممتاز، مكتب العمل قريباً جداً.. كل ماسبق بشرط وحيد: إذا حجّت البقر على قرونه.. للأطفال فقط) ثم كتبت: (أبو الأرانب مجرّد خرافة!).. (مع تحيات/ جاي بس راجع).

انطلقت بعدها خائفاً ومتلهفاً لألتقي مع نفسي فالساعة تشير إلى السادسة والنصف ولقائي لنفسي هو كل مايعنيني ذلك اليوم.

(يتبع)


.

0 تركوا أثرا:

إرسال تعليق