السبت، 24 أكتوبر 2009

₪ رحلة إلى 1412هـ ₪ 3 ₪




وأمام ذلك البيت الذي سيحتضن أيام عمري لفترة لا يعلمها إلا الله توقفت بسيارتي أرقب منظراً تكرر في مخيلتي مرة واحدة فقط، حين استلامي لوثيقة التخرج من كلية المعلّمين في عرعر، وكأني بدأت الحدوتة في السابعة إلا ربع من ذلك اليوم وأنهيتها بعد ست عشرة سنة على بعد 290 كيلو متر من ذلك الباب الذي سأخرج منه بعد قليل، أخرجت ورقة صغيرة وكتبت فيها بعض الإرشادات والنصائح وكان العائق هو متى سيستطيع الصغير قرائتها ومتى سيقتنع بفحواها.

ثوانٍ معدودة وخفقات قلب متسارعة وضخ لـلترات الدم في العروق بسرعة جنونية حتى أتى الفرج، الباب يفتح ببطئ ويد طفلٍ صغير قد سقط في "جُبّةٍ" حربية علق في أعلاها شعار حربي وكلام باللغة الإنجليزية ذو فحوى سياسي جبار، خرج الطفل وأنا أتأمل تلك الشنطة التي لم يعلوها سندباد ولا حتى الكابتن ماجد بل مجرد شنطة خضراء وفيها نجمات زرقاء، لحظني الطفل بنظرة اعتلاها الخوف والرهبة ولم تكن نظرتي له ببعيد عن ذلك الشعور لكن الطفل مافتئ ينظر لي حتى سمع نداء من الخلف فالتفت إليه وهو يشعر بأنه الشخص الأكثر دفئا في العالم.

كان ذلك النداء هو نداء الوالدة -ألبسها الله لباس الصحة والعافية- وهي تهمّ بإيصالي لمدرستي الإبتدائية "البراء بن عازب"، المدرسة ليست ببعيدة وأبناء حارتنا اليوم يذهبون لها وحدهم لكني أكبر الأبناء وأحتاج دائماً لرعاية خاصة من أمي كما هو حال كل بكر، سارت أمي ويدها في يد ذلك الطفل وكل ما يمتلك عقلي هو أنني لن أستطيع مقابلة والدي في ذلك اليوم فهو هناك على الخطوط الخلفية للبلاد يحرسها حتى أنعم أنا وبقية أطفال ذلك الوقت بالأمن والأمان، اقتربت المرأة الحنون كثيرا من المدرسة وتركت ذلك الطفل يكمل خطواته المتبقية إلى البوابة ليستقبله معلمون شح زماننا بهم وبكفائاتهم، أخذت أتتبع تلك الأم الرؤوم عائدةً إلى بيتها وهي لا تعلم أين ستنتهي تلك الرحلة ولا يشغل بالها سوى من سيعيد طفلها إليها، قفلت راجعاً إلى المدرسة وكان الدخول لها ذلك اليوم سهلاً فالمدرسة مليئة بأولياء الأمور الذين حضروا مساندة لأبنائهم فكنت مع من دخل بذلك المظهر، أنا أعرف الطرق والممرات في تلك المدرسة جيداً وأحفظها عن ظهر قلب وأعرف تماماً أين سأجد ذلك الطفل لكن العائق يكمن في كيفية الأخذ والرد مع ذلك الطفل، دخلت فصله (أول / أ) ولم يكن يوسف الحيح معلم ورائد الفصل متواجداً حينها فكانت فرصة ذهبية.

سحبت أحد الكراسي الخالية وجلست بجانب ذلك الطفل ولم أعرف من أين أبدأ الحديث.

كان السؤال الأكثر حماقة في ذلك الزمان توجهه لأي طفل هو: وش اسم أمك؟ الطفل حينها سينقلك لخانة خاصة يجعلك فيها تجاور بيلاتريكس لسترانج (شخصية خيالية لساحرة شريرة في روايات هاري بوتر)، وقد تحتل يومها أعلى قائمة الناس الأقل ثقة في العالم.. سألته عوضاً عن ذلك, وش اسمك ياشاطر؟ فانطلق أخونا بالحديث وكان من أطرف النقاط هو حينما سألته: وش تشجع ياشاطر؟ أجابني وبكل صراحة: النصر. أخبرته أن الخيار قد يكون صائبًا حالياً ولفترة مؤقتة لكن النجاح لن يدوم وستكون هناك نتائج كارثية فلم يقتنع حاله حال أي نصراوي في ذلك الوقت.

أخرجت الورقة التي كتبتها في السيارة وهممت أن أعطيه إياها لكني ترددت قليلاً وانتبه هو لذلك، مما كتبت في تلك الورقة:

* بمجرد تجاوزك الصف السادس ابتدائي توقف عن الإهتمام في مادة الرياضيات واحرص فقط على درجة النجاح فيها فأنت لن تستفيد أبداً من الهندسة التحليلية ولا المجموعات الخالية ولا الجتا وأخواتها.
* قد يغريك البعض وينصحك بدخول القسم العلمي وتضيع فيه سنتين في التفاعلات والتشريحات والنسبية والنووية والتفاضل وأخوه المغلوب على أمره التكامل وآخر الأمر: لو داخل أدبي أصرف لك.
* لا داعي للقلق (كل شيء سيسير على مايرام) هذه القاعدة استمر بها حتى الرابعة والعشرين من عمرك وبعدها ربك يحلّها، وهناك جملة بالإنجليزية تقول: "Life is like an ice-cream. Enjoy it before it melts".

عوضاً عن اعطائه تلكمُ الورقة.. أدخلتها في جيبي، فالحياة تحلو فعلاً بنكدها ومن دون فلسفة أهل الرياضيات الحياة مالها طعم ومن دون هزائم النصر أيضاً الجلسات مالها مذاق.

خرجت أتجول في الأسياب ومن ثم تذكرت مهمة بسيطة علي إنجازها، إلى عمرو بن العاص الابتدائية وتحديداً الصف الثاني ابتدائي، دخلت على الطلاب وطلبت منهم أن يرددوا كلمة (فريرة) عدة مرات، ثم إلى ذلك الطفل الذي نطقها مبدلة رائها بالواو قرصت إذنه حتى صرخ وقلت له: علشان السي دي اللي راح تكسره، لكن الباب فتح فجأة وظهر أخي الأصغر يقول لي: قم تراك تأخرت على الدوام. نظرت له وأنا أردد: دوام..! أي دوام؟! أنا بعمرو بن العاص.. الحين أنت وش جابك؟!

قطع الرحلة الرائعة وهو يقول: شكلك تحلم, قم الساعة 8:30 الصبح، استيقظت وأنا في رفحاء 1430 هـ, عبرت الطرق إلى دوامي وأنا أقارن بين مدينتين على قولة ديكينز، الأولى: بسيطة عفوية تستلذ بكل تفاصيلها رغم فقر التقنية، والأخرى أدخلتها التقنية الزاعمة بتسهيل الحياة إلى غاية التعقيد حتى كرهنا كل التفاصيل.

(انتهى)


.



0 تركوا أثرا:

إرسال تعليق