السبت، 24 أكتوبر 2009

₪ بنت اللذين.. وعوالم المحبين ₪




(أبي أمرّك الليلة.. مبطي علمي بك.. بس بالله جلسة خاصة أنا وأنت بس)

تلك هي الرسالة التي استلمتها عصر ذلك اليوم من صديق قديم، ولكن محبته قد حفرت داخل القلب عميقاً، هناك.. حيث أتفرّد بمن أحب حقاً وسط ظروف الحياة القاسية، أعلل نفسي بينهم حينما أشعر بالغربة وأعتزل الناس لأستحضر تلك الأطياف المبتسمة والوجوه النظرة المفعمة بكل معاني المودة والإخاء. أولئك الذين جاد الزمان بهم عليّ حتى لم يعد للحياة مذاق ولا رائحة بغير مؤانستهم والإنتعاش بمخالطتهم رغم أنّ أكثرهم لم يجتمع تحت سقفٍ واحد أبداً.

أشعر أحياناً بالغبطة لأنني أجيد اختيار أبناء تلك الحفرة ولأن نظرتي بهم وبغيرهم لا يغيرها مرور الزمن ولا عوامل التعرية ولا انهيار سوق عالمي بل هم في أخلاقهم ومظاهرهم وبواطنهم كذلك الصفوان الذي أصابه وابلٌ فتركه صلداً.

أخذت أعد الساعات حتى يختفي قرص الشمس ويسدل الليل أستاره لأنني على يقين أن أبا عبدالرحمن شخص يَقْلب الأيام الطويلة إلى لحظات ساحرة جميلة فقد آتاه الله حسن منطق ورصف للكلام لم يؤته أحد ممن قابلت على ظهر هذا البسيطة، أتاني صاحبي والبشر كما هي عادته يعلو محياه وجلس معي جلسة ما أظن أنها ستكرر في مابقي لي من أيام.

قال لي : سأحكي لك قصتي مع بنت اللذين.

كانت حارتنا القديمة مليئة بالمواطنين الأصليين قبل أن تتغير وتجد بين كل أربعة بيوت مواطن مثلك، في تلك الحارة التقليدية كان الكبار يقولون أن أكثر من ولد في سنة 1398 هم الذكور وهذ الذي كان ظاهراً للعيان فمن درس معي من أبناء الحارة كثير وقد يتجاوزون الأربعة عشر ذكرا. تجاوزنا معاً كل المراحل الدراسية وتخرجنا سوياً ولكن الأيام فرّقت بيننا ولم أعد أقابل إلا اثنين منهم يقطنون معي نفس العمارة.

في تلك الحارة العتيقة كان جارنا الملازم لبيتنا "الجدار على الجدار" يدعى أبو عارف وكان قد ولد له في تلك السنة فتاة تدعى "مــهــا".

مها.. كانت رؤية تلك الفتاة جائزة عظمى لكل أبناء الحارة، فتلك العيون العسلية الساحرة وتلك الظفيرة الغليظة التي تزين قوامها، وخطاها التي تنقلها بكل حياء الأنثى إلى هندي البقالة الشرس عبدالكريم، ومقام والدها الإجتماعي بصفته عمدة الحارة, كل هذا مهّد لمغامرةٍ أعضاؤها تجاوزوا الخمسين شاباً 14 منهم في عمري وعمرها.

بدأت فصول تعلّقي بمها لمّا شاهدتها مع أمها وهم يزورون منزلنا في أول أيام الإبتدائية وكيف كانت مع أمها في سعادة غامرة إذ أنها أحبّت المدرسة واندمجت معها من أول يوم بينما كانت أمي تحكي لهم كيف كان يومي الأسود وكيف طلبت من والدتي أن تخبر أبي أني لا أريد زيارة ذالك المكان الذي يدعى مدرسة مرة أخرى.

كانت علامات الخجل قد ارتسمت على خدودي ولولا أن مها فاجأتني بتلك الإبتسامة التي كانت كنسمة ربيعية في نهار يوم قائظ.

على غير عادتي لم أخرج من الصالة إلى حصني العتيد غاضباً من أمي على ماسببته لي من إحراج أمام مها وأمها بل شعرت بسعادة بالغة إذا أنني أضفيت ابتسامة مشرقة على وجه ذاك الملاك. كان انتزاع الإبتسامة منها صعب للغاية فكم من موقف غبي تسببت فيه لنفسي حتى أرى ذلك المنظر كرّة أخرى، تخيّل مرة أنني اضطررت إلى الاصطدام بواجهة بقالة عبدالكريم الزجاجية فقط لتخرج تلك اللوحة الفنية التي لم يتخيلها (فان غوخ) في زمانه ولم تبتسمها حتى موناليزا صاحبة دافينتشي الأصيلة.

لكن الموقف الذي لازال يهزني في داخلي حدث معي أيام الخامس ابتدائي إذ مرّت علينا قصيدة لأمير الشعراء في مادة المحفوظات عنوانها "النخلة المعوجّة" كان أحلى وأرق أبياتها يقول:

سارت مها مسرورة ** مع والدٍ حنٍ أبر

ما إن قرأت ذلك البيت حتى أعددت العدة لأول ظهور لي في الإذاعة المدرسية، أخبرت عريف الفصل بأنني أريد أن أخرج معكم في الإذاعة القادمة, واجهني بغروره المتأصل بالرفض وقال لي: انت ماتعرف. كان ذلك السد المنيع أشبه بعتبة باب في ظل تحقيقي لحلمي وإدخال شعور الفرح لملاكي الخاص.

كان عريفنا ضخم أَكُول ولاستثارة غضبه ما كان علينا سوى إنشاد مقطوعة من مسلسلٍ مصري رمضاني قديم وفيها:

أشعب يا أشعب.. يا أشعب.. يابطناً أوسع من ملعب

وبالطبع كان أليفاً للغاية في حال قدمت له الإغراءات وأصناف المأكولات, فاوضته إن سمح لي بالنشيد في الإذاعة أن أقدم له قدرية تشريب رفحاوي أصلي يدعو لها من يشاء فوافق مباشرة بعد أن نعتني بالغبي بشرط ألا أعزم عليها أحداً غيره.

جاء اليوم المشهود واستيقظت قبل صياح الديك ولعلعة المؤذن وأنا أحفظ تلك القصيدة أكثر من عبدالكريم الهندي لديون البقالة وأكثر من حفظ العريف لمكونات التشريب البلدي.

نسيت أن أخبركم بأن ابتدائية مها لا يفصلها عن ابتدائية البنين سوى شارع بعرض 12 متر وبأن إذاعتنا تستمع لها البنات كل صباح إذ لم يكن في ذلك الوقت إذاعة للبنات.

أخذ المقدم الحصيف بسرد مقدمته وأخذت أنا أتلهف شوقا للحظة التي سيقول فيها والآن مع نشيد الصباح والطالب فلان, حانت تلك اللحظة وتقدّمت بكل ثقة ووقفت أمام المايك كما لم يقف الأسطورة الإيطالي لوتشيانو بافاروتي وغردت وكرّرت بيت شوقي (سارت مها مسرورةٌ ** مع والدٍ حنٍ أبر) 3 مرّات وختمتها دون أي اكتراث بتصفيق الحضور، من المعلمين الأفاضل ولا المدير المحترم ولا حتى أبناء الكرة الأرضية كلهم؛ بل كان كل همّي ملاكي الخاص وابتسامتها الساحرة.

منذ ذلك اليوم وحتى غطت مها وجهها كانت كلما نظرت إليّ تبسمت لتروي ظمأي لتلك اللحظات التي لا تستطيع وصفها إلا بأنها من نعيم الجنة لا حرمنا الله إياها. طوت الأيام بعضها حتى أتى ذلك اليوم الذي غمرني فيه حزن مكتوم يكاد يمزق أحشائي.. إذ فيه أخبرتني والدتي بأن أحد الأولاد (من الأربعة عشر) قد تقدّم لخطبة مها من والدها، ضاقت عليّ الأرض بما رحبت ولم تسعفني خطواتي للوصول لعمي أبو عارف, رضخت لأمر لم أحسب يوماً حسابه وكنت أعيش على أمل أن ترفض مها وأن لا تقبل إلا بي أنا.. فهي ملاكي الخاص، ولن يشغر أحدٌ من نساء الأرض موطئ طيفها من روحي وقلبي.

تربصت لعمي أبا عارف بعد صلاة مغرب ذلك اليوم, وما إن خرج حتى أخذت بيده وقلت له: ياعمي أبيك بموضوع. فرد علي قائلًا: خير ياولدي وش بغيت؟! فأجابته دموعي قبل كلماتي: يا عمي تكفى طلبتك مها لا تعطيها أحد.. تكفى ياعمي إن كان لي خاطر عندك اسألها وهي تعلمك ياعم.. مها لي أنا يا عمّي.

أخذ أبو عبدالرحمن كاسته واحتسى منها رشفة وسألته وأنا أحترق ألماً لقصته: طيب وش صار يابو عبدالرحمن؟!
مها الآن أم لولدين وبنت، بنت اللذين أم عبدالرحمن وعلي وسارة.. عيالي ياصاحبي !


(انتهى)



0 تركوا أثرا:

إرسال تعليق