السبت، 24 أكتوبر 2009

[ مع النفس في غفلتها ][1]




شكى الطنطاوي -رحمة الله عليه- يوما من مخاصمة النوم له، وما ذاك إلا لأنه كان يحمل همّ الأدب والكتابة، فعلام يشتكي البطّال وما الذي يُشغل بال العاطل؟!

أكتب هذا الكلام في الورقة وقد كنت قبل ساعة في اشتياق للفراش، مستسلما للنعاس، فلما ملت على الوسادة، وذبت تحت الغطاء؛ أحسست برعشة سريعة اهتز لها رأسي، سببها أرق أعاني منه منذ عدة أشهر، فما أن فتحت عيني، حتى ارتفع النعاس عني.

مالك يا مسكين؟ لا همّ أمّتك تحمل، ولا إلى وجهة الخير تلتفت وتحفل، نم.. فالنوم قدر كل كسول ومُهْمِل. انتبهت وقلت في نفسي: مِنَ العيب أن تنشر هذا الكلام يتيما، اكتب ما يفيد ولو تكلفا، فقد ابتليت الكتابة بحبّك لها، وغدت في قلبك (كأنها مصحف في بيت زنديق)، أتحبها وما كلفت نفسك العناء بإقامة لسانك وبنانك بتعلم اللغة، ولا أصلت نفسك بمعرفة الشرع؟

المهم.. دعوا عنكم ما سبق وعدّوا إلى ما عزمت الكتابة عنه:

[ مع النفس ( 1 - 3 ) : في غفلتها ! ]

ثقيلة هي النفس عند الغفلة. عندما تذوب شمعة الإيمان في القلب، ويخبو سراجه في العقل، فقد غفلت النفس.

غفلت عن مراقبة الله - عز وجل - ،
غفلت عما وراء الموت من أهوال،
غفلت عن مرور الوقت ، وتآكل العمر
غفلت عن ذاتها (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) !

ولماذا لا تغفل وتنسى نفسها؟! ألسنا في آخر الزمان؛ حيث الفتن ترقق بعضها، قد عُمّرت أسواق الرذيلة، وبارت أسواق الفضيلة.

حين تجمح النفس بصاحبها، تسير به إلى حيث الشهوة، وفعل الشهوة زَبَد يُنهى بالتوبة والندم والاستغفار، أما الاستمرار بالشهوة، والركون إلى لذة مقارفتها، والإصرار عليها، والتغلغل فيها؛ مَعبر ينحدر إلى مُستنقع الشبهات، أما رأيت شخصا اتخذ إلهه هواه قد صاح يوما -بعد سنوات ضيعها في الشهوة- ساخرًا أو متألمًا حائرًا: لا حياة بعد الموت، إنما هي حفرة يُلقى فيها الإنسان، أو قال: أنا لا أؤمن بالجن، وما علم المسكين أن دولة من الأباليس تقيم في قلبه، أو ردد في مركز تأهيل ما: أنا المهدي المنتظر.

النفس في غفلتها تميل إلى المنطق، والتشدق في الكلام، بل -وبكل وضوح- تميل إلى أي شيء سوى كلام الله -سبحانه- وحديث رسوله -صلوات الله وسلامه عليه-؛ ثقيلة مجالس الذكر على النفس الغافلة، يا لمذلة الغافل في مجالس الخير والصلاح، ويا لمعزته في مجالس الغيبة والشعر وأخبار من هلك وآخر ما كتب من زبالة الأذهان وكناسة العقول.

النفس حين الغفلة تتخلى عن مبادئها، وتتزلف إلى كل شهواني قنّن شهوته، كل ما بناه في سنوات يهدمه في جلسات مع من همه شهوته، هناك فجوة أحدثتها تلك المبادئ -في وقت مضى- بين صاحب النفس الغافلة وبين من التصق بحياة الشهوة، وصار خبيرا بها، يقوم غافل النفس بأقوال وأفعال يهدف من خلالها إلى إيصال رسالة لخبير الشهوة: إني في الطريق إليك ! ما حرمته بالأمس، وأوجعت رأسك نصحا لتتركه، صرت أقارفه، أتمنى أن أجلس معك من الآن فصاعدا لنقارفه معا، لنشاهد الدّش، والمرأة الحسناء، ولنستمع للموسيقى والغناء، لكن أرجوك.. أرجوك ! لا تحرجني وتقوم بدور المُحقق: ألم تكن تحرم هذا؟! ألم تكن قد أوجعت رأسي نصحا لتركه؟! ماذا الآن؟! هل حللته؟! ... لا.. أرجوك.. لا تحقق معي هكذا، فلا أستطيع الإجابة، شيءٌ في قلبي من بقية صلاح مضى يمنعني من أن أحلل ما هو حرام كي لا أهزم في جدال عقيم، (هي معصية) أمرّها كالبرق على ذهنك كما أفعل، ثم لننغمس في المتعة.. والله غفور رحيم !

النفس الغافلة، لا تجد الشجاعة في محاسبة ذاتها، وتتهرب من الإنفراد، وتحتج بأهون الحجج والمبررات لتبرر هذا التحول الذي طرأ عليها، من انغماس في الطاعة وتوحش من حياة المعاصي، إلى الضد من ذلك، ربما تبرر ذلك أنها أساسا لم تكن من الصالحين، كانت تعتقد اعتقادات.. وترى رأيا، ثم عدلت عن ذلك. ربما تحتج بسوء أهل الصلاح ونفاقهم ، تحاول أن تجمع ما لديها من قصص وأحداث، علها تعين على تقوية هذه الحُجّة، ربما تحتج بالسحر، ربما تحتج بالضغط النفسي، ربما.. كثيرة هي الحجج ! يكذبها ليال أحيوها في قيام وذكر ودعاء، يكذب حجة فساد الصالحين أن القدوة هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولا معصوم إلا الأنبياء، الحجج كثيرة ولا عذر لمن ترك الصلاح مادام مسلما بالغا عاقلا، وإنما الأمر بالشهوة، وذنوب الخفايا والخلوات قتلٌ للصلاح وفعل الطاعات.

وهناك أمر خطير يمر على النفس الغافلة، وهو ظهور الخبث والفحش في أرجائها، تأملوا صاحبها.. إذ يتأثر في نطقه وفي نوعية ما ينطق به.. رحم الله الحياء؛ يسهل على صاحب النفس الغافلة أن يتلفظ بفاحش القول، وغليظ الكلام، بل حتى أسلوبه في إخراج الألفاظ والكلمات فيها بعض الجلفة والخبث والعربجة.

كيف ينغمس في ذل المعصية ، من ذاق حلاوة الطاعة؟!

ربي ! إني أحب طاعتك، وأكره معصيتك، أعنّي على نفسي ولا تجعلني من الغافلين، ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. آمين

وصلى الله على الحبيب وسلم .

0 تركوا أثرا:

إرسال تعليق