الأحد، 25 أكتوبر 2009

[ آلام ! ] - شيء مما أتألم منه.



سألني: عرّف الألم.

أجبته بعد صمت وتردد: لا أستطيع أن أعرّف لك الألم يتيمًا، لكن دعني أخبرك عما يؤلمني، ويضحك الدّمع في عيني ، ويشرّقني على ظمأ.

يؤلمني مشاهدة تلك المرأة وهي تجوب الحواري والبيوت، وتنتقل بين المساجد والجوامع، تمدّ يديها لإخوانها من المسلمين بمرارة وصمت يهز القلوب الحية، ويملؤها أسى وحزنا، أثق تمامًا أن وراء ذلك الحجاب وجٌه كان يعيش -يومًا- حلمًا جميلا، وأمانٍ وردية، لكنه مع كرّ الأيام، وتآكل الأعوام، صُفع بواقع الحياة المريرة، وحقيقة الدنيا وبؤسها، وأثق والله.. أن الإنسان -بشكل عام- لا يمد يده لغيره، إلا بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وسدت في وجهه الأبواب، وذاق الحرمان وشدّة الضيق. وشاذٌّ من يمد يده مخادعًا كسولا راكنا إلى طيبة النّاس وحسن ظنهم، وعلى كل حال.. ما على المحسن إلا الظاهر، وعند الله تجتمع الخصوم.

* * * *

يؤلمني أني قد عايشت يوما صاحب همة مرتفعة، ونفس تواقة للصلاح، وسابقة للخيرات، قدوة -بلا مبالغة- في العلم والعبادة والمجاهدة والصبر، كنت أراه أقدم من هذا الزمن، هذا ما كنت أحدث به نفسي، مكانه المناسب مع صالحي القرون المفضلة، لكنه تخطى أعناق القرون، واستقر في هذا الزمان، والحمد لله على قضائه وقدره، لقد استقر في زمن بَارَ فيه سوق الإسلام وكسد، وعُمّر سوق الكفر والفسوق والطغيان والظلم.. سوق الشيطان. رأيته -يومًا- مُطرقا حزينا، فسألته : مالك يا فلان؟! فقال لي بأسى ظاهرٍ من تفكير عميق للغاية: يا أخي.. والله نحن في زمن محيّر ! ثم ترقرقت عيناه وصد عني، كنت أشعر بسعادة لا توصف لأن الله وفقني أن أصادق مثل هذا، لا أحتاج حين أراه إلى قراءة سير الصالحين ممن سلف، فإني أراهم فيه، وكما قيل: ما أعجب ما يصنع الإيمان بالإنسان !

لكن..
دعوني من لكن وما بعدها؛ فإنها تحرق قلبي وتطيل عجبي ودهشتي، ورددوا معي:

ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها **** فكأنها وكأنهم أحلام

نعم.. لقد انقضت تلك السنون، لكني لا أزال أسمع صدى صوته كأنه يخرج من بئر عميق، أو واد سحيق، قائلا: يا أبا عبد الله، نفسك نفسك.. ثمّ غيرك غيرك. لم يعلم أنه كان ينفخ في رماد، حينها لم أكن أبالي بالنصيحة كثيرًا، ولا أحفل بالموعظة، أما الآن فإني أبالي وألتفت وأهتم بالنصح، لكن أين الناصح؟!

* * * *

تألمت جدا حين رأيت قطار الحلول والفرص قد رحل عني وأنا غير منتبه له، كنت في حلم راهنت عليه بقطعة من عمري، وأشلاء تناثرت من قلبي، لكني اكتشفت أنه حلم زائف.. وضائع، فما انتبهت إلا والأفق قد ابتلع القطار، ولم أر منه إلا شتات من دخان يتلاشى.. .

فات القطار ! تركني والعبرة في عيني، والألم والحسرة في قلبي ووجداني، فغمرت الكآبة روحي، وفاض اليأس على قلبي، وخمدت جذوة الحماس الذي كان يصب النار في أعصابي، ثم يزداد ألمي حين لا يوجد على هذه البسيطة من أفضي إليه، وقد قيل:

ولابدّ مِن شَكوى إلى ذِي مُرُوءةٍ **** يواسيك أو يُسْلِيك أو يتوجّع

فيتفطر قلبي من السكوت، ويتمزق صدري من الصمت، حبيس الألم، حيث لازلت سطرا في صفحة الحزن، ليت شعري ! متى تمّحي هذه الصفحة، ولتذهب الذكرى إلى الجحيم، قال أحدهم: (يا ليت الإنسان لا يذكر، إذن لما تألم) صدق، يكفي ألما في معايشتها، أو أتألم من ذكراها؟!

قال العلامة الطنطاوي -رحمة الله عليه-: (لا تخشى بقايا الظلام على حواشي الأفق) قلت: غفر الله لك شيخنا، ذلك لو كان الظلام في جهة المغرب أفقا، لكن حق لي الخوف حين أرى حنادس الظلام على حواشي الأفق شرقا وهي تتدفق على الدنيا، وتنتشر في أرجاء الكون.. حُق لي ذلك.

ربي ! متى يلقى الستار على هذه الآلام ، ليرفع عن..! لا يهم.. مادام ديني سالما، وكنت في عافية، وأحبابي كذلك.. لا يهم أبدًا.

* * * *

هذا شيء مما أتألم منه أحبتي، فمما تتألمون؟

0 تركوا أثرا:

إرسال تعليق