الأحد، 25 أكتوبر 2009

[ وقفة على الأطلال ! ]




قال لي أستاذ فاضل: لا تكثر الوقوف على الأطلال. نعم.. لن أكثر الوقوف، لكني لن أنقطع عنه، مشاغل الدنيا وهمومها شمس حارقة لجلدك مزعجة لأعصابك مؤذية لعينيك، والوقوف على أطلال الماضي كالظل من الضاحي كما قال العلامة الطنطاوي رحمه الله تعالى، وإن كنت -على كل حال- جالسا مع نفسك، منقطعًا إليها، فالتغلغل في أودية الماضي، والتجول في أزقته، خير لك من السباحة في سراب التمنّي، والتحليق في فضاءات مثاليّة، لكنها من صنع الخيال، وتكوين الأوهام.. مجرّد سراب.

دعني أعيش يا أستاذي في الماضي، لأني تركت فيه مِزَقا مِن روحِي، وأشلاء من قلبي، وبقايا صُوَر لأحبّة عايشتهم، فبدأت تلك الصور تمّحي مع انصرام الأعوام، وخفت عن مسمعي صدى صوتهم، صدق في أيامهم وفيهم كذلك قول الأول: (فكأنها وكأنهم أحلام) مع كل رمضان يجيء، نفقد أقواما ونستقبل آخرين، أقواما كنا نظن يوما أنهم سيبقون دومًا في حياتنا.. دون انقطاع، ثمّ بغمضة عين نفقد الواحد تلو الآخر، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر الموت ليرتاح من عيش أرذل العمر، ألم تلو ألم، ومصيبة تتبع أختها، وفي المقابل نستقبل أقواما جدد في سير حياتنا، منهم المستجد في هذه الحياة، ومنهم من صال فيها وجال، ثم قابلك في إحدى تقاطعاتها، ليصحبك في طريق واحد، هل سيبقى إلى الفراق الذي لامناص منه، أم سيقطع مفازة حتى يقضي مصلحته ثم يولي وجهته إلى تلك السبل المتفرقة من حولنا، أم أنه سيموت.. ليس موتا ينتقل عبره إلى الحياة السرمديّة، وإنما تموت روحه أو شخصيته ليحل مكانه إنسان آخر ظالم لنفسه أو مقتصد أو سابق بالخيرات.

دخلت يومًا على أهلي فوجدتهم متسمّرين أمام التلفاز، وأعينهم تفيض من الدّمع، ومن التلفاز يخرج صوت ليس بغريب علي، لكني لم أتبين صاحبه حتى اقتربت، فأصبت برعشة باردة في عظامي، وغصة ضيقة في حلقي؛ إذ أرى في التلفاز ستة من أقاربي آخرهم توفي هذا العام 1427هـ، كلهم أراهم أمامي في كامل صحتهم وعافيتهم.

جلست متسمرًا أمام الشاشة، أنظر إلى أحداث هذه (الطلعة) البريّة التي كانت في عام 1414، كنت لأول مرّة أرى هذا الشريط، وما كنت أظن يوما أني سأسمع صوت هؤلاء الأحبة مرة أخرى، أو أراهم يتسامرون ويضحكون أمامي، خالي -رحمة الله عليه- يحتضن ولده الصغير (هو في الثانوية الآن) ويلاعبه، عمي -رحمة الله عليه- قادم من بعيد ومعه سلاحه وهو يضحك ويتكلم عن طائر لم يوفق لاصطياده، كأجمل ما رأيته من صحة وقوة، بقيّة (الشيبان) -رحمة الله عليهم- متكئين على الفرش، وقد سيطر عمي الكبير -رحمة الله عليه- على المجلس بحديثه الرائع، جدي لأمي -رحمه الله تعالى- ينظر إلى الكاميرا ويداعب حاملها (ابن أخيه)، الجو غائم.. والأرض شماليّة، لا أذكر هذه النزهة أبدا، ولم أظهر فيها كما كنت أتمنى، لكن يكفي أني أرى مثل هذه المشاهد، يا لروعتها ويا لشدّة تأثيرها، عهدي بكل واحد من هؤلاء -رحمة الله عليهم- سنة وفاته، بيني وبين أحدهم إحدى عشرة سنة كاملة، وفي كل عام نفجع بواحد وأكثر، وفي كل رمضان نحصي من فقدنا من الأحباب والخلان.

إننا حينما نعيش في الماضي، إنما نتعلق بجنات كانت بين أيدينا، ومشاعر كنا نحس بها، وانتعاش كان يملؤ نفوسنا، وبراءة كانت لباسنا، فلما تآكلت السنين، ومرّت الأيام، فقدنا ما كنا نملك، ومع أننا بلغنا سِني الشباب، وهذه أمنية لنا في الصغر، ومع أننا أغنى الآن بكثير من تلك الأيام، إلا أن تلك الأيام أقرب إلى قلوبنا وأحب من هذا الحاضر، لا على مستوى الراحة في عيشنا، ولا على مستوى أمتنا، كل عام يرذلون، وكل سنة شر من التي بعدها، فتن ترقق بعضها، ومبادئ تتساقط من حولنا، بعضها ضاع منا قسرا، والكثير منها قد ضيعناها نحن.

ألا ما أجمل الرّاحة في ظلال الماضي.

غفر الله لهؤلاء الأحبة، وأفسح لهم في قبورهم، وأراهم مقعدهم من الجنة، وآنسهم بخير أعمالهم، ونقاهم من خطاياهم كما ينقى الثوب من الدنس، اللهم اغسلهم من خطاياهم وأعتق رقابنا ورقابهم من عذابك، اللهم واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى.

وصلى الله على الحبيب وسلم.

0 تركوا أثرا:

إرسال تعليق