الأحد، 25 أكتوبر 2009

[ مع النفس في غفلتها ][3]



لا أزعم أني قد أتممت وصف النفس الغافلة في الحلقتين الماضيتين، لا.. ولو أطلت في وصفها، وأسهبت في الكلام عنها لجاوزت العشرين حلقة.

سأتجاوز الكلام عنها إلى الحديث عن الأسباب الحقيقية والخفية والتي تؤدي إلى غفلة النفس، منها ما يلقي بالنفس إلى مستنقعات الغفلة مباشرة، تفاجئ حتى صاحب تلك النفس، ومنها ما تجره شيئا فشيئا إلى أودية الغفلة السحيقة المظلمة، تجرعه من كأسها على مهل، ربما لأنها أكبر من أن تساغ بجرعة، والنتيجة -على كل حال- واحدة: غفلة النفس.

السبب الأول: ذنوب الخلوات
وهي أعظم أسباب الانتكاسات كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه-، وهي ككرة الثلج عندما تنحدر من أعلى إلى أسفل، كلما زادت انحدارا عظمت وكبرت، ينحدر الإنسان وهو يرتكب معاصي الخلوات، يخاف من كل شيء.. كل شيء إلا من الله -عز وجل-، أقسم لو أن قطة وقفت تنظر إليه وهو يقارف المعصية لاستحيا وخجل، كلما زاد انحدارا زاد في الفجور وقلة الإيمان والتجرؤ على اقتراف المعاصي.

السبب الثاني: الاستسلام للفراغ
النفس إن لم تشغلها بالطاعة أشغلتك بالمعصية، لا أظن أن اللهو المباح مبرر قوي لغافل النفس، أيّ لهو مباح في زمن الفضائيات والانفتاح السيء القبيح؟! في فراغك التام إشغال للشيطان، ذروة دوام الأباليس حين فراغك، لايني الوسواس يزين لك المعصية ويجيش لك الصور والأخيلة التي ترفع المعصية إلى مقام سام.. لكنه تحت دستور الشهوة، والمهلكة حين اجتماع الشباب والفراغ ووجود الشر والقدرة عليه، قال أبو العتاهية:

إن الشباب والفراغ والجدة **** مفسدة للمرء أي مفسدة

السبب الثالث: التشديد على النفس
لابد أن نعلم أولا أنه لم يكن إتباع السنة والاجتهاد في تطبيقها (ظاهرا وباطنا) تشددا، التشدد هو تجاوز السنة مغالاة في العمل، الزهد من نتائج تطبيق السنة، لكن الغلو في التطبيق هو تجاوز لها، لذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن نوى ترك الزواج وصيام الدهر وغيره (فمن رغب عن سنتي فليس مني) لم يكن عدم الاهتمام بنظافة الثياب من الدين، ولم يكن العبوس دائما وسوء الخلق من الدين، لم يكن معاداة العاصي وبغض شخصه من الدين، لم يكن الغلو في تقديس العادة وجعله من الثوابت من الدين، النفس ثائرة، الكبت يولد الانفجار، ويكفي التشدد سوءا أن أربابه استقلوا عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم.

السبب الرابع: الذنوب الصغيرة
أما الإصرار عليها فيحولها إلى كبيرة، قال أهل العلم: لا صغيرة مع الإصرار. يا لسخفنا حين نفكر بحقارة المعصية -في نظرنا- وننسى عظمة من عصينا، قال صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".

السبب الخامس: الترفيه المبالغ فيه
ساعة وساعة.. نعم، لكن البعض يبالغ في ساعة اللهو، ويبني عليها نفسه وعلاقته بغيره، تتأسس صداقاته مع غيره على ساعة اللهو، وإن كان يجعل ساعة الإيمان غطاءا لهذه العلاقة، لتستظل علاقته تحت (تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه) وهذا يستحيل، حين تكر الأيام، وتطوى السنون، تكشف حقيقة هذه العلاقة المزيفة.

السبب السادس: الاستسلام للفتور
لابد أن تمر على المسلم ساعات يغمر الفتور روحه، قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شرة (أي: حدة ونشاطا) ولكل شرة فترة (أي: استرخاء وفتور)، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا، وإلا فقد هلك "فمن استسلم بفتوره للمعاصي وترك الواجبات كان فتوره إلى شر، قال ابن القيم رحمه الله: (تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان) وقال أحد العلماء: (إن النفس لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت فخذها بالعزيمة والعبادة، وإذا أدبرت فأقصرها على الفرائض والواجبات).

السبب السابع: تأثير الصحبة
الأخ في الله، أو الحبيب في الله هو من يسحبك إلى الإيمان والصلاح وترى أثر ذلك عليك.. في قربك من الله عز وجل، أما من خدرك بالترفيه واللعب والبعد عن مجالس الذكر فما هو بالصاحب، وإن طالت لحيته إلى سرته، وقصر ثوبه إلى أسفل ركبته.

هذا ما استحضرته، عسى الله أن يكتب لي ولكم ما فيه خيري الدنيا والآخرة.


0 تركوا أثرا:

إرسال تعليق